“يوم تبيض وجوه وتسود وجوه” “وأما الذين أبيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون” … فما هي تلك الوجوه التى عرضت لها الآية بالثناء .. وذكرتها من أعذب قصص واطيب رجاء؟
أهي الوجوه التي كانت في الدنيا تتناولها يد الماشطة حتى تهذب من قبحها وتنسقها بالخضاب حتى تصقل إهابها ثم تتركها مسرحاً للعيون الخائنة،وخدعة يلوح بها الشيطان ويدعو إليها الغواة ويجمع حولها الفاسقين ؟ أم هي الوجوه التي نسقتها يد القدرة فكان يشع البهاء من قسماتها ، ويشرق الحسن من طلعتها ثم هي لا تعرف لله نعمة ولا تخشى له جانباً ولا تسجد بين يدية سجدة المؤمنين الشاكرين؟
لا هذه ولا تلك ، فإن الله لا ينظر في الناس إلى صورهم ولا يقدر أجسامهم ولكن ينظر إلى قلوبهم ويزينهم في الآخرة بأعمالهم … ورب أشعث أغبر ولكنه على صلة بالله،فهو عند ربه بر شكور،وله في الأخرة خطوة ممدودة ومنزلة مشهودة …إن الذين وصفهم القرآن ببياض الوجوه وبشرهم بأنهم سيكونون في رحمة الله … ذلكم الذين حقت يهم الدعوة الإيجابية بتوجههم إلى الكمال الذاتي .. تأخذه لأنفسها .. ثم تكشف من غيرها.
ويتحقق هذا الكمال في أمور ثلاثه : في تقوى الله حق تقاته …. وفي التسلح بالدين دائماً في السر والعلانية حتى لا يفاجئنا الموت إلا ونحن على الإسلام … وفي التضامن على الق والإعتصام بحبل الله والرجوع إلى شريعته في كل ما يعرض لنا من خلاف … حتى لا يتفرق جمعنا …وتضعف شوكتنا … ويقبح معاشنا في دنيانا
وكمالنا فينا ننشد للغير يتحدد أيضاً في أمور ثلاثه:أن ندعوهم إلى الخير…ونأمرهم بالمعروف … وننهاهم عن المنكر …وهذه رسالة المصلحين بعد أن صلحت حالهم (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) ونحن في حوزة هذه الآيات نكون على الكمال المستمد من مناهج الكتاب والسنة …فنصيبا في الدنيا مكفول ، وحظنا فيها ناهض ، وشأنة في الآخرة موكول إلى وعد الله الصادق “قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرتل لأنل ومن أتبعني”
وأما هذا الفريق الآخر والذين أختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات ، وأؤلئك لهم عذاب عظيم … فهو الفريق الذي سلك مسلكاً معوجاً عن صراط الله وأنحرف إنحرافاً غاوياً ، وهم الذين كبر عليهم أن يقلعوا عن المعصية ، فمنهم من تحلل من دعوة الله إلى التدين،ولم تخضع وجوهم لله بالإيمان والتعبد ، فحملوا أنفسهم ظلماً وأورثوها غضباً ، ومنهم من تدين ولكن في غير مطاوعة للدين الحق ، فلم يتابع رسوله في الإيمان بالرسل،والرجوع إلى الله الحق في كل ما يجري على ألسنة الرسل من الحق ، ومنهم من ظن أنه تام العقيدة … كامل الإسلام … وهو نفسه حرب على العقيدة ، خصم لدينة بما يأتي وبما يدع … ويظن أن ضعف التدين عند بعض الأشخاص هو ضعف من الدين ذاته … أولئك هم الذين يحشرون يوم القيامة على حالة تخالف حالة السابقين الأولين
هذان فريقان قال عنهم القرآن “يوم تبيض وجوه وتسود وجوه” وقد بين لهم القرآن جميعاً ما يأخذون وما يتركون فإذا ما قطعوا سبل الحياة وأنتهوا إلى غايتها ووقفوا من ربهم موقف الجزاء … كان عدلاً في نظر الدين ان يفرق الله بينهم في المقام والمظهر ، وأن يميز بين طيبهم وخبيثهم ، ليحصد كل منهما نتائج سعيه في دنياه ويري مصيره الذي أرتضاه
فبياض الوجوه في تلك المواقف ليس بياضها الذي كان عرضاً في الحياة ، وكانت به فتنة فاتنة ، وقد يكون هذا البياض في الآخرة دمامة وقبحاً … وأنما بياض اليوم وضاءة من أثر الإيمان ، وهو روهة وبهجة لحسن ما لهم عند ربهم ، وإطمئنانهم على أنفسهم وظفرهم بما وعدهم به ربهم من المثوبة وحسن القبول … أنما الوجوه التي وصفت بالبياض هي التي تكون ناضرة في النعيم وهي التي تسقي من رحيق مختوم ، لم يسبقها إليه أحد … ولم تخالطه آفة ولا شائبة ولا نقصان
أما الذين قال فيهم “فأما الذين أسودت وجوهم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم به تكفرون” … نعم كفروا بعد الإيمان لأنهم منذ عروفا لأنفسهم عقولا يهتدون بها وحواساً يدركون بها … لم يستخدموها في الإهتداء حتى تعطلت عن صواب الإدراك … وسخروها في غير ما خلقت
هؤلاء هم أصحاب الوجوه الباسرة العابسة المحزونة المكتئبة ، والتى تتوقع ما سينزل بها من دواهي فاقرة ، وما سيحل بها من هوان أليم.